"إصحي يا بنت إنت في القدس"
هكذا أيقظتني صديقتي وأنا نائمة في الكرسي الخلفي في السيارة التي هربتني من رام الله إلى القدس بعد تخطينا الحاجز، وهذه الكتابة ليست أكثر من توثيق للدهشات التي تصيب فلسطيني شتات في لقاءه الأول بفلسطين المحتلة 1948، ومقارنة بين الصورة المرسومة في ذاكرة المبعدين والحقيقة.
لكن الذي يهم حقاً حين ترى الجنة المسجونة خلف الجدار ليس الدهشات نفسها، المهم هو أن تنجح في اختبار الإيمان بالعودة بعد أن تدرك امتداد المحتل الحقيقي على الأرض. المدينة الأولى كانت القدس، والقدس التي ستراها ليست أقل من القدس التي تحلم بها. قال لي صديقي المقدسي: "هون الإحتلال، هون المواجهة كل يوم، الصراع اللي مش رح تشوفيه لا في حيفا ولا في رام الله" وكان محقا.
المدينة تضج بالسياح العجائز، تجاعيد وجوههم لا تشبه بلاط الطرقات القديم المصقول. أمام مقهى الشارع حيث جلست أشرب قهوتي توقفت مجموعة من المرتلين من شرق آسيا. قال لي صاحب القهوة: "هدول خالصين، شوي وبعيطوا".
قلت للبائع: "القدس كلها عجايز"، قال لي: "إلا عجايزنا" ثم استأنف: "بس دفـّيعة، أحسن من الشباب".
التجار المقدسيون يتكلمون العربية والعبرية والإنجليزية، ويقولون تفضل ويلكـَم شالوم. قال صاحب المطعم شاكياً: "السياح بمروا من قدامنا وبيوكلوا عند المطعم اليهودي، واحنا موفية معنا بالعافية، لو في سياح عرب كان تغير الحال". لا أحد يقول فلسطيني بالإشارة إلى الفلسطينيين، الكل يقول عرب.
في القدس يتجاور الأضداد، هناك تشعر برفض التعايش، الصراع يحدث على كل شبر، الفلسطيني يقاوم تهويداً لا يرحم والمحتل يريد الأرض كلها والتوتر يصعد من صفر إلى ألف في دقيقة، كل هذا يحدث بينما السياح يطوفون المدينة بكاميراتهم الجائعة باسترخاء لا تعرف من أين جاؤوا به وملامح الخشوع السياحي بادية عليهم، لكن الكاميرات لا تلتقط صورة العداء.
أنت لن تحب كفلسطيني قادم من دوامة الرموز الوطنية في الشتات أن تفهم حيلة التاجر الذي يضع نجمة داود وآية الكرسي على رف واحد، لكنك بعد قليل ستدرك أن هذه التجارة هي مقاومة في سبيل البقاء.
"شو بتتوقعي، يحط صورة الحكيم؟" قلت لنفسي.
ستلاحقك السمفونية الإبراهيمية، هناك تفكّر أن الله لا بد صاحب أذن موسيقية: الأجراس، الأذان، القرآن، التراتيل اليهودية والغناء المسيحي، كل هذه الأصوات تصنع خليطاً من الألحان التي تكاد تنتحر من الندم.
الصدمة الأولى تحدث حين تجد نفسك مضطراً أن تسير إلى جانب محتلك، ما لا يمكن فهمه في هكذا لحظة هو نفسك، ولا أتكلم عن الجنود والمتدينين، فهذا العداء مُتاح مما يحقق لك الحد الأدنى من التصالح مع ذاتك، أتكلم عن الأطفال العائدين من المدارس، عن فتاة تعزف الجيتار على جانب الطريق، وعن عاشقين في زاوية الشارع. قد تستغرب قولي لكنهم لا يجرّون خلفهم ذيولا ضخمة تغطيها الحراشف، ولا تخرج من رؤوسهم قرون طويلة.
في القدس وجدت نفسي خارج المحيط العربي ومحاطة بهم للمرة الأولى في سوق إسمه ماميلا أي مأمن الله، في ذلك الشارع وقفت طويلا بانتظار معجزة الخلاص، معجزة مثل تحرير فلسطين أو ظهور المهدي، وهناك خطرت ببالي الأفكار التالية:
- سأحتاج إلى حمام طويل بعد هذا الوقوف.
- هذه التماثيل المعروضة للبيع في الشارع هي تماثيل صهيونية، وبالتالي فجمالها ليس جمالا وإتقانها ليس إتقانا، تحديدا ذلك التمثال البرونزي على هيئة عازف كمان.
- حين نسترجع البلاد سأبحث عن هذا التمثال وسأسرقه.
- هذا الطفل الذي يجلس في العربة بينما أمه تتكلم على الهاتف لماذا يبتسم لي؟
حاولت تجاهل الطفل، لكنه أصر على الابتسام، أخذت أحدّق به بجمود لا يقل عن جمود التمثال البرونزي، مليون فكرة تخطّت رأسي الفارغ وظلّ الحوار التالي:
- ابتسمي للطفل يا جمانة، أنت تحبين الأطفال
- لا
- خدوده كبيرة، وشعره مفلفل
- لا
- ثم إنه يرتدي صندلاً أحمر، أي عذاب هذا؟
الأطفال لا يحملون أي جنسية، الأطفال جنسيتهم طفولتهم، ثمّ إن هذا الطفل لا يحاول استدراجي لفعل تطبيعي مشين، وابتسمت له، نعم ابتسمت للطفل. ولست نادمة.
بقيت على وقوفي هذا حتى جاء صديقي وأخذني إلى أجمل مكان يمكن أن ترى منه القدس، قال لي "بترجع" فشعرت أني في مأمن الله.
في الطريق إلى حيفا ليلاً حاولت تخطي ضيق التنفس الذي ظلّ يصيبني في الرحلات الطويلة، هذا الألم الذي ينتابك وأنت تقطع الأرض المحتلة، السيارة كأنها تسير فوق لحمك، إنه وجع استيعاب الخريطة.
حيفا تبتسم، هذا ما خطر ببالي حين رأيت البحر في الصباح من شرفة منزل صديقتي، تبتسم ابتسامة عربية من اليمين إلى اليسار.
في فلسطين تحاول أن تكون عفوياً، أن تتصرف بشكل فطري كأي إنسان يسير في بلده، حيث لون بشرتك منسجم مع لون التراب وحيث أمواتك مدفونون وحيث كان يجب أن تعيش وتموت. تحاول بتحرج بالغ ألا تكون غريباً ولا سائحاً ولا زائراً فتنجح أحياناً وتتعثر كثيراً، تخجل من دهشاتك، يجب ألا تدهش من وطنك، جيناتك الغبية نائمة، لا تقوم بعملها ولا تستعيد ذاكرتها.
تحاول أن تعود الشخص الذي كنته قبل أن تزور المنازل المهجورة في وادي الصليب في حيفا، هناك قالت صديقتي: "هذه تعتبر أموال غائبين حسب القانون الإسرائيلي".
هل نحن غائبون؟
وادي الصليب يشبه إسمه، الفرح مصلوب، والساحات فارغة إلا من النفايات والنباتات البرية، تتأمل تفاصيل المنازل الجميلة التي اعتنى أهلها ببنائها، تفكر أن منزلاً كهذا تبينه لتورثه لإبنك ولأحفادك، ستغص من صمت النوافذ المقفلة بالاسمنت وانكسارها، وقفت أمام المنزل الصغير الجميل وسألته:"وإنت أهلك وين؟" بكيت وبكى المنزل معي.
[منزل في حي وادي الصليب في حيفا]
تحاول أن تخفي أكبر كم من الحب في قلبك، ففي النهاية أنت لا تعرف إن كنت ستعود.
تحاول أن تستعيد جزءاً من لهجتك وأنت تسمع اللهجات الفلسطينية القادمة من الشمال والوسط والجنوب، تكتشف أنك بلا معجم وأن لهجتك محيّدة وسخيفة.
تجيب على أسئلة الأصدقاء في الداخل المحتل والتي لا تقل طفولة عن أسئلتك:
"كيف شفتِ فلسطين؟"
"شو أول شي لفت نظرك؟"
"أول مرة بتزوري البلاد؟"
شفتها أجمل بلد في العالم، أول شيء لفت نظري هو اليافطات العبرية.
نجحت بألا أبكي في القطار الذي تحرك بنا من حيفا إلى عكا حين صعد الجندي إلى المقطورة ووضع سلاحه في حضنه وجلس على المقعد الفارغ مقابلي.
هكذا، جلس بكل بساطة وهدوء، بلا أي حقد مفترض، كأننا غريبان عاديان.
ليس الغضب، ليس التوتر وليس الصدمة، لم يكن هذا النصف متر الذي فصل بيني وبينه إلا إحساسي الشاسع بالهزيمة، سكنني هذا الشعور المتوحش لباقي اليوم ولم يغسله إلا الجلوس أمام بحر عكا ومراقبة أطفال فلسطينيين يلعبون ويتبادلون الشتائم والضحك.
أمام البحر كنت أفكر أننا في الشتات نواجه الحلم، وفي الداخل يواجهون الواقع، والفرق بين الفكرتين مخيف.
عكا.. هي المكان الذي تنسى فيه الاحتلال، مراكب الصيادين والعكيّات وهن ينظفن السمك والفتية الذين يقفزون من السور إلى البحر، المدينة عربية فلسطينية ومتأهبة وأهلها مثلها، تضحك معهم وتشتم الاحتلال معهم وتناقش الانتخابات البلدية التي لا تفهم منها شيئا معهم. وكوني لا أعرف أسماء السمك كما لا أعرف أسماء الحارات لم يقلل من ألفتي مع عكا.
[بائع سمك في سوق عكا]
تحضرك أغنية (من سجن عكا طلعت جنازة) حين ترى السجن المذكور، وتتذكر أن الألم الفلسطيني قديم وموروث ومؤتمن عليه من جيل إلى جيل في ذاكرة الأغنيات.
الله يسعد عكا وأهلها.
لم أزر يافا، لم أتمكن حتى من الاقتراب، وحين كانت تظهر من السيارة ونحن في الطريق من مدينة إلى أخرى ويقول أحدهم هناك تل أبيب كنت أدير وجهي للجهة الأخرى.
لكن زرت الناصرة ونذرت شمعة في كنيسة البشارة ودعوت ذات الدعاء الذي أدعوه منذ عشرين عاماً، وتشاركت طعامي مع قطة بعد أن نهرها الخوري بعيداً عن طاولته، وكذلك حضرت عرس صديقتي في أم الفحم على أنغام (علّي الكوفيّة). وفي اليوم التالي عدت إلى القدس التي اشتقت لها في الأيام الماضية.
ضعت في المدينة القديمة بدون أصدقائي، وبينما كنت أحاول العثور على باب العامود حيث تعود السيارات إلى رام الله، قادني ضياعي لنهاية أحد الحارات القديمة حيث أوقفني جندي وسألني بالإنجليزية من أين جئت، أجبته بالإنجليزية من عمّان، ثم جفلت لخاطر أن يسألني عن الفيزا، لكنه قال مبتسماً: "طب إحكي عربي".
لم أفهم لماذا يتكلم الجندي الإسرائيلي العربية.
ثم استأنف "إذا بدك تروحي هناك بدك تغطي راسك".
نظرت إلى "هناك" حيث أشار بيده ولمحت قبة الصخرة، كانت ساطعة وكنت مذهولة وممتنة لضياعي. ارتجفت، رجعت عدة أمتار للوراء، اشتريت من البائع المقدسي لباس صلاة وإئتمنته على علمانيتي حتى أعود.
داخل الأقصى كرّرت ذات الدعاء الذي دعوته في كنيسة البشارة في الناصرة، قلت في نفسي: "إذا ما زبطت هون بتزبط هناك".
في مدن فلسطين تسير بإحاطة وحماية أصدقائك الفلسطينين، تنام في منازلهم، تأكل من طعامهم، تتحرك في سياراتهم، وتظل في دوائرهم، أحدهم يسلمك للآخر وقلماً يتركوك وحيداً، هم بحنو الأم لا يريدونك أن تصطدم بحجم الاحتلال الذي يعرفونه جيداً، لا يريدونك أن تشرب كل السم الذي امتصوه قطرة قطرة في نشأتهم فتكونت لديهم مناعة منه، هم يعرفون أنك أضعف منهم، يتحركون بك داخل النسخ الفلسطينية من المدن ويشرحون لك عن كل منزل وحارة ومحل، تتحرك بين المطاعم الفلسطينية، المقاهي الفلسطينية، الباعة والشوارع والمحلات الفلسطينية، يريدون لك أن تفرح بلقاء الوطن، لكنك ستحزن شئت أم أبيت، وسيلمسك الوحش وستلمسه.
أنت لا تريد أن تسألهم كيف يعيشون بينهم؟ لا تريد أن تبدو أحمقاً أو ساذجاً أو غير مدرك لصعوبة حياتهم كل يوم، لا تريد أن تكون أقل فهماً منهم، لكنك بالفعل أقل، أقل من مقاومتهم وأقل من استيعابهم. لكن الأجمل حقاً أنهم غير ملوثين بالاحتلال رغم وجودهم في عمقه.
في الأوقات القليلة التي سرت بها وحدي كانت المدن تتحول لحالة سمعية مكثفة، أسير وأنصت، فإذا سمعت حديثاً عربياً تجرأت بالاقتراب والسؤال عن وجهتي، وإذا سمعت اللغة الأخرى أكملت سيري.
ترى اليافطات المكتوبة بالعبرية في كل مكان، يريحك أنك لا تفهمها، تريدها أن تظهر كطلاسم، ليس لأنك لا تريد أن تفهم ما يقوله عدوك، لكن لكي تذكر دوماً شذوذ وجودهم في المكان.
الاعتياد.. يجب ألا أعتاد على أي ملمح للاحتلال، لا فاتورة الكهرباء المكتوبة بالعبرية، لا المعاطف والقبعات السوداء، ولا النمط اليومي الذي يحمل الجميع إلى أشغالهم صباحاً ويعيدهم مساء.
قالت لي صديقتي وأنا أحدثها عن الدهشات المستمرة: من الرائع أن تصدمك أصغر تفاصيل الاحتلال، أنت ترين ما لا نراه. وكنت ممتنة لعدم الاعتياد رغم الألم.
أن تزور فلسطين المحتلة 1948 لا يختلف كثيراً عن توقعات شخص دخل في غيبوبة قبل خمس وستين عاماً واستيقظ اليوم، ويقال أن النائم في الغيبوبة يشعر بما يدور حوله ولا يدركه.
أحياناً يقودك التأمل إلى مناطق غريبة في التفكير، أن تحسب التعداد السكاني لفلسطين المحتلة 1948 وتنقص منهم عدد الفلسطينيين في الداخل ثم تستبدل الباقي بأعداد سكان المخيمات، يا إلهي سيكون هناك أزمة سكن، على المحتل أن يبني مئات اللآلاف من المنازل بعد!
أو أن تكتشف وأنت تتأمل شجرة أنك فقط تتساءل إن كانت قد زرعت قبل النكبة أم بعدها.
أن تعتقد موقناً أن الطيور والقطط والأشجار غير قابلة للاحتلال، وأن تحبها لذلك.
وأن تفرح حين يرفض بائع الفواكه أخذ ثمن حبة الجوافة منك، وأن تعزي حادثة بريئة كهذه إلى ترحيب الوطن بك.
هل قلت أنني ما زلت أواجه الحلم؟
لا بأس بالحلم، على الأقل لتخفيف الحسرة، فالزيارة الأولى ليست سهلة، هي موجعة بقدر ما هي مفرحة، والاتساع المفاجئ في الوعي مؤلم، والاقتراب من المحتل مهين وقد يصبح في لحظة غير محتمل، لكنك ستستعيد إيمانك بالحق، وحين يقول لك كل من قابلتهم: "بترجع، رح ترجعوا لا تخافوا"، لا تستطيع أن تكون أنت غير المؤمن.
لكن وسط كل هذا الحزن والعقل الذي لا يهدأ، تذكر أنك في فلسطين، وأن هذه هدية العمر.
تذكر قبل أن تكره لصوص الأرض أن تحب الأرض، وأن تحب الناس والتاريخ، تذكر أن تصلي في الأقصى وفي الناصرة، وأن تأكل السمك وتطعم القط وتسلم على البيوت المهجورة، وإذا كنت محظوظاً وكان لديك أصدقاء كأصدقائي إقرأ الشعر في حيفا وقل كلمة للحب هناك.
ولا بأس أبداً، أن تستمع لأغنية (موطني) وأنت تطل من شرفة جميلة على بحر فلسطين وتبكي.
[جميع صور المقال من تصوير وأرشيف الكاتب جمانة مصطفى]